التغلب على النفس :-
من أصعب المعادلات التى لا يستطيع فك شفرتها إلا القليل , ففيها الكثير من مخالجة النفس الأنانية وفيها تعلق بحب الذات. وإن للعقل العاطفي سطوته وقوته , فهو صاحب الكلمة الأولى في الحكم على الأحداث ثم يتبعه العقل المنطقي مصدقا أو مكذبا , هكذا يقولون قد خُلقت ردة أفعال عقولنا , إن الفرق بينهما ثواني معدودة ولكن حين نكون في وسط الحدث نشعر بأن الوقت بطيء كأنه الدهر كله.
إن رحلة الانتصار للنفس قد تبدأ من كلمة جارحة نسمعها في مجلس فننتفض مزهوون للرد عليها , أو قد تكون أكبر من ذلك بظلم متكرر ومتراكم منذ سنين . إن ردة أفعالنا قد تكون جامحة فتجعلنا نطلق الأحكام بالتعميم على الأشخاص أو الهيئات أو المؤسسات .
وقد نتحين الفرص للانتقام للنفس فنظل في صارع داخلي مرير وطويل , ويصعب علينا بعد ذلك التوازن في الأحكام وردود الأفعال. قد يكون التوازن هو الصواب وهو عين الحكمة ولكن المشكلة أن ذلك يتأرجح بين العقل العاطفي والمنطقي في وقت وقوع الحدث أو بقاء أثره في نفوسنا.
وتكمن المشكلة في أن عقولنا العاطفية هي التي تصدر الأحكام فهي أسرع استجابة بسبب ردة فعل المخ الطبيعية, لذلك يكون ردود الأفعال أو الأحكام الأولية التي نقوم بها هي أقرب ما تكون عاطفية أكثر منها منطقية.
فالنفس في حالة يهجان العقل العاطفي ما تزال تراوغ بك يمنة ويسرة حتى تنتصر لها. وقليل هم الذين أدركوا ذلك جيدا خصوصا إذا كان من صاحب منصب قيادي أو مكانة اجتماعية .
دخل رجل على أبو حنيفة رحمه الله فقال له اتق الله " فما كان منه لا أن قال: ما أحوجنا إليها".
إن الرحلة الأصعب هي الانتصار على النفس لا للنفس فهي مراتب ودرجات في السمو , وإن أعلها منزلة ما كان من حبيبنا عليه الصلاة والسلام .
ولعل أكبر وأجمل مشهد يمثل ذلك والذي لا يستطيع أي مشهد عبر التاريخ أن يفوقه جمالا و روعة هو مشهد فتح مكة . فتخيل معي ذلك المشهد إن استطعت إلى ذلك سبيلا .
فهم يؤذونك ويشتمونك و يقاطعونك ويقاتلونك , و فوق ذلك كله هم أقرب الناس إليك , ويصدق فيهم قول الشاعر طرفه بن العبد : وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على المرءِ مـن وَقْعِ الحسامِ المهنَّدِ ويستمرون في عنادهم وغيهم لمدة عقدين كاملين بلا كلل ولا ملل .
ثم تأتي تلك اللحظة الحاسمة التي يحق لك فيها أن تنتقم لنفسك فأنت المنتصر وهم المهزومون , وكأني أنظر إلى وجوههم وهم يشعرون بالخيبة والحسرة فقد وقع ما كانوا بالأمس يحذرون. أفلا تنتصر لنفسك ؟ ولو بكلمة واحدة أو بنظرة فيها قسوة وغلظة تشفي بها غليلك , كلا بل على العكس من ذلك ترتفع محلقا عاليا فوق الجميع معانقا السحاب , فأنت قدوة الأوليين والآخرين بلا منازع !, فتقول لهم " اذهبوا فأنتم الطلقاء".
هذه هي قمة السمو , وهذه هي روعة الحضارة الإنسانية التي حُق لها أن تُخلد ما بقي التاريخ , وليست تلك الحضارة الزائفة التي يدّعون وينمقون.
عندما ننتصر لأنفسنا فإننا نكون أول المتضررين , فإن حب الانتصار للنفس يترك أثرا في قلب يولد الضغائن والحقد للانتقام دائما وأبدا.
إن الانتصار على النفس هو غريب عزيز لا يحسنه إلا القلة فلله درهم فهم أسعد من خصومهم.